مسائل الخلاف كثيرة جدا لا يخفى هذا على أحد والخلاف نفسه على أنواع:
فمنه غير السائغ وله أمثلته الكثيرة ومنه السائغ وله أمثلته وقد يكون هذا الخلاف السائغ في بعض فروع العقيدة كرؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج وكنه الإسراء وهل هو بالروح والجسد معا أم بالروح فقط وغير ذلك وأكثره في المسائل الفقهية ومسائل وسائل الدعوة وغيرها.
وليس كل خلاف سائغ على نحو ما قال القائل:
وليس كل خلاف جاء معتبرا***إلا خلافا له حظ من النظر
بل لهذا ضوابط ومعايير وضعها العلماء ليس هذا مجالها.
والخلاف السائغ هذا -طالما كان سائغا وحكم عليه العلماء بهذا الحكم- لا ينكر على من أخذ بأي الرأيين وهذا رأي السلف الصالح والأئمة:
سئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة. [التمهيد، ابن عبد البر 11/54].
وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. [الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص105].
عن أنس قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) [البيهقي في السنن ح5225].
يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. [الفقيه والمتفقه 2/69].
وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به. [الفقيه المتفقه 2/69].
ويقول أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.
ويقول ابن مفلح: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع. [الآداب الشرعية 1/186].
قال النووي: "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً" [شرح النووي على صحيح مسلم 2/24].
وذكر الغزالي في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإحياء في أركان الحسبة:
(أن يكون المنكر المحتسب فيه منكرا معلوما بغير اجتهاد فكل ما هو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه.
فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضبع ومتروك التسمية ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي نكاحه بغير ولي وشربه النبيذ الذي ليس بمسكر وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار ونحو ذلك) (الإحياء (2/324)).
ويقول ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" [مجموع الفتاوى20/207].
وقال العلامة ابن رجب: (والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعا عليه فأما المختلف فيه فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا واستثني القاضي في الإحكام السلطانية ما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه قال: كنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنى) (جامع العلوم والحكم (2/254-255).
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "ثم اعلموا وفقكم الله، إن كانت المسألة إجماعاً فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد" [الدرر السنية 1/43].
هذا في تعامل العلماء مع الخلاف السائغ طالما كان سائغا.
وعدم الإنكار يتمثل في:
1- النقاش بأدب وعدم التطاول على الأعلام الذين هم ملح الأمة فإذا فسد الملح فسدت الأمة وكذلك إن أفسدناه نحن!!
2- عدم الحمل على المخالف وأنه مخالف للسنة وهذا نراه مثلا في مسألة الحجاب مثلا في قول بعضهم عن المحجبة إنها سافرة طالما لم تغط وجهها وكفيها!! وغير ذلك من مسائل.
3- عدم إثارة مثل هذه المسائل والالتفات إلى ما هو أهم منها في هذا الزمن خاصة -الذي تقولون إنه زمن فتنة- والذي نحتاج فيه إلى زيادة مساحة المتفق عليه وتأجيل الكلام فيما فيه خلاف "سائغ" ولنوجه جهودنا لأنواع المسائل الأخرى وهي كثيرة حيث الخلاف فيها غير سائغ أو غير معتبر أصلا أو شاذ أو نحوه ولنوجه جهودنا إلى عدونا الذي يرمي الصواريخ علينا لا تفرق بين هذا وذاك.
وكان سفيان بن الحصين جالساً عند إياس بن معاوية، فمرّ رجلٌ فنال منه سفيان، فقال إياس: اسكت! هل غزوتَ الروم؟ فرد سفيان أن لا، فسأله إياس ثانية: أغزوتَ الترك؟ فقال سفيان: لا؛ فعلَّمه إياسٌ درساً لم ينسه سفيان أبداً، حين صاح فيه: سلم منك الروم، وسَلِم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟
وهذه القصة أهديها إلى هؤلاء الذين قال فيهم محدث الأمة أبو هريرة -رضي الله عنه-:
«يُبصرُ أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْلَ ـ أو الجذْعَ ـ في عين نفسه؟»
4- عدم النظرة الدونية إلى من يخالفنا في هذا النوع من المسائل وكأنه زنديق وكأن العلم كله بأيدينا نطعمه من نشاء ونمنعه عن من نشاء!!
5- توجيه الكلام ونبرته في هذا النوع من المسائل لا بد أن يختلف عن غيرها من مسائل فلا بد أن يكون فيها نصيحة ببشاشة وود لا بأمر ونهي وتجهم!!
6-إن لم يقتنع من أمامي برأيي في مسألة من هذا النوع لا أكرهه أو أعده من أعداء السنة أو أبطل صلاته أو احذر الشباب منه أو اطبع كتيبات أو أشرطة غير مرخصة في "التحذير من بلايا فلان" "إسكات الكلب فلان" "الرد الكاوي على فلان" "داعية الضلالة فلان" أو أبلغ الأوقاف عن المساجد التي ينشر بها دعوته أو أو...إلخ ما هو معروف.
فقد وقع الخلاف بين الصحابة -عليهم الرضوان- أدى بعضه لاقتتال بينهم وبالرغم من كل هذا كانوا يصلون خلف أحدهم ولم يسب بعضهم بعضا ولم يلعن بعضهم بعضا بل كانوا يردون على من يفعل هذا في أكثر اللحظات سخونة:
-نال أحدهم من عائشة رضي الله عنها يوم الجمل وسمعه عمار فقال: (اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشهد أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة)
-ولما وصف ضرار بن حمزة الكناني علياً بين يدي معاوية: بكى معاوية وجعل ينشف دموعه بكمه، ويقول لمادح علي رضي الله عنه:كذا كان أبو الحسن رحمه الله. [الاستيعاب 4/1697].
يقول الإمام أحمد بن حنبل: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" [سير أعلام النبلاء 14/40].
ويحضرني هنا ما ذكره الشيخ محمد حسان في شريطه الرائع "أدب الخلاف" حين ذكر أنه لما مات الشيخ الغزالي دعا الله له بالرحمة والمغفرة وغيرها على المنبر فجاءه شاب بعد الصلاة قائلا -ببلاهة البعض-: (هل يجوز الترحم على الشيخ محمد الغزالي؟!) فقال له الشيخ :ويحك لماذا؟ فقال الشاب: إنه أخطأ في كذا وفي كذا وأخذ يذكر ما يعتقده خطأ عند الشيخ الغزالي فقال له الشيخ حسان -حفظه الله وأكثر من أمثاله-: يا هذا لو عاملنا علماء الأمة منذ عهد رسول الله حتى عهدنا بمثل ما تعامل به الشيخ محمد الغزالي ما بقى لنا أحد!!
ومعنى عدم الإنكار هو مراعاة الأدب في الخلاف وقد قدمت بعض النماذج. فتنبه يا رعاك الله.
ماذا أقول؟
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة***ولكن تفيض الكأس عند امتلائها.
مقالة منقولة