بسم الله الرحمن الرحيم
"لا زلنا في مرحلة التأليف"
هذا هتاف رقيق حنون خافت أهتفُ به في آذان أفراد الأسرة ...
نعم ، لا زلنا في مرحلة التأليف
والتقارب
والتعارف
والتمازج
والتحابب
والتناغم
والتجانس
وقل ما شئت من ألفاظ اللغة ،المهم أن تفهم أن النجاح لا يُكتب إلا لمن ألّف الله بين قلوبهم فكانوا صفا واحدا ليس بينهم خارج، ونغما متجانسا ليس فيه نشاز.
ولْيمر علينا من الوقت ما يمر ، فلسنا متعجلين ، وليس الفلّاح الصابر على غرسه ليُخرج له ثمرا ناضجا بأفضل منّا حين يعاني الصبر وهو يعرفُ أن الصبر مفتاح النجاح.
ولئن نصبر على التكوين والتأليف خير من أن نتعجل الإنتاج فيخرج إنتاجا شائها قبيحا لا روح فيه ولا إتقان به ، يعيبه علينا الناس ، ولا نرضاه لأنفسنا ، بل لعله يتحولُ علينا بالإحباط واليأس إذا وجدنا أنفسنا من الفاشلين.
فالصبر الصبر تبلغوا....
وليفقه الجميع ،وأعيد فأقول وليفقه الجميع أننا لازلنا في مرحلة التأليف ،وهي مرحلة مستمرة ؛ لاننتقل منها إلى غيرها ، بل ننتقل معها إلى غيرها ، وتعالوا معي نفتح كتاب الله نتأمل آياته لنفهم معا لماذا التأليف هو الأهم وهو صاحب النصيب الأكبر والوقت الأطول في حياة الجماعات...
إن الناظر في سورة الأنفال يجد الوصف الدقيق للجماعة الناجحة الغالبة الثابتة يقول تعالى :" وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
انظر إلى مادة (ألف) كم تكررت ، أليس في ذلك تنبيه لأولي الأبصار.
إن هذه الآيات نزلت في شأن الجهاد والقتال وهو المحك الحقيقي لاختبار الجماعات
وانظر كيف يمن الله على نبيه (ص) بأنه ألف بين قلوب المؤمنين ، وكأن النصر والوصول إلى الأهداف لا يكون حليفا إلا للفئة المتآلفة.
فالتآلف أولا.
ودعوني أصحبكم لنفتح معا كتاب الأستاذ الداعية البصير محمد أحمد الراشد لنسمعه يتحدث عن نظرية قد تكون على الأسماع جديدة ،ولكنّي أرجو من الجميع أن يفهمها ويألفها وتكون مرتكزا من مرتكزات تفكيره ، يقول الراشد تحت عنوان (نظرية الأشكال المؤتلفة)
: (واجب تربوي لا تظنن أن السلف غفلوا عن إدراكه أو تلبية متطلباته، بل لا تزال قصص حياة بعضهم تنتظر من يفيد منها من دعاة الإسلام اليوم اقتداء واتباعًا، من بعد أن بنت جيلا من الدعاة في يومها الماضي، أصلحوا ما أفسد الضعفاء، وقوموا ما حرفه الدنيويون.
يبرز منهم في الصدر الأول: التابعي المحدث الفقيه المربي الشاعر:
(عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي)، حفيد أخي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
وأحد فقهاء المدينة السبعة،
ومن رؤوس العلم والنباهة الذين تتلمذوا لعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة والنعمان بن بشير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعنهم أجمعين(1)
نهج عبيد الله منهجا تربويا سماه: (التأليف بين الأرواح)، وخلد عنوانه شعرا فقال:
وما يلبث الفتيان أن يتفرقوا ... ... إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل(2)
ظاهره بيت شعر تحركت به شفقة شاعر ليطرب قلوبا يبهجها الحرف البليغ، لكنه لمن عرف خلفياته يمثل خلاصة تجربة تربوية انسابت عبر سيرة مرب مصلح لتغذي قلوب يلذعها تفرق المسلمين.
يجزم أنه إحلال الألفة بين الأرواح، أو هو الاختلاف المشتت.
يعني ذلك أن مذهبه التربوي لا يبدأ ولا يكتفي بإعطاء العقول ما تحتاجه من علم شرعي، وتربية فكرية، وخبرة سياسية، ودراسة واقعية، بل يعتني بالقلوب أولا يجعلها متشاكلة، ويظل يواصل عنايته بها إن التفت إلى العقول بعد.
فمغزى نظريته أنها تعطي للتربية الروحية الأولوية.
__________
(1) تهذيب التهذيب 7/33.
(2) الأغاني 9/144.
وربما أعطت نظرة سريعة لحديث عبيد الله بن عبد الله في صحيحي البخاري ومسلم صورة قريبة من التفصيل لما كان يربي أصحابه عليه،
ولكن التفصيل كل التفصيل تفهمه إن علمت أن تربيته أنتجت عمر بن عبد العزيز رحمه الله، مثال المتجرد، ونموذج الحاكم العادل، إذ كان هو مؤدبه الخاص ومربيه الذي لقنه معاني الإيمان.
فمن بهرته شخصية عمر: عليه أن ينظر من صاغ عمر وكان وراءه، ويفحص نظرية التأليف التي ألفت بين قلبه وقلوب عصبة الخير التي عاونته في إشاعة العلم والعدل في الأمصار، ممن صقلتهم صحبة عبيد الله بن عبد الله، من أمثال: أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أحد فقهاء المدينة السبعة ووالي عمر على المدينة، والزهري زعيم المحدثين، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعراك بن مالك القاضي، وصالح بن كيسان.
فلقد علمهم عبيد الله أسس السلوك في عصر الفتن الذي عاشوه، واستطاع بنظريته التربوية أن يوجههم لتأسيس مجتمع السلام والعلم من بعد ما كادت الخلافات تستهلك ما عند الناس من خير، وأداه صدق نيته في مسعاه، وتركيزه على تربية عمر بن عبد العزيز من بعد، ووعيه للاحتمالات التي تكتنف مستقبل عمر، إلى تأييد رباني رفع عمر إلى السلطة، ليعلم الناس علم الآخرة من مركز القوة المهاب لا من زوايا المستضعفين المنسية.
نعم، حال السلم بين عمر والإتمام، وشوش أبو مسلم الخراساني فيما بعد على تلامذة جيل الإصلاح الذي وعي نظرية تأليف الأرواح، لكنها كانت بارقة ولا زالت تنير طريق الدعاة السائرين، وكلمة باقية في عقب عبيد الله من حزب تأليف الأرواح).
انتهت كلمات الراشد
وانتهت العلامة الأولى على طريقنا.
غير أني أدعو من قرأ أن يعيد قراءة الكلمات ؛ فوراء الأسطر معانٍ عميقة لا تُدرك من أولِ وهلة.
والسلام